الأحد، 15 مايو 2011

عن الوحدة الوطنية؛ المفهوم و الآليات

الوحدة الوطنية هي الكنز المدفون هذه الأيام.. الجميع ينقب عنه في مختلف الأركان، والخبراء يفتشون عنه في الخرائط القديمة و الحديثة، و العلماء و المتعالمون يقترحون يوميا سبيلا جديدا يوصل إليه، لكن أحد مشكلات هذا البحث المحموم أن لا أحد يعلم على وجه الدقة ماذا يكون هذا الكنز بالتحديد، ولا ما هي العلامات والدلائل التي تؤكد لنا أن ما قد يعثر عليه هو الكنز الحقيقي، وليس نسخة زائفة يسعى مدلس أن يسوقها لنا؟.. بمعنى آخر نحن لم نحدد بعد ما هو شكل الوحدة الوطنية التي نريدها.. فبعض الذين تحدثوا عن الوحدة الوطنية لم يتجاوزا كونها حالة حماسية شعرية تجدها في مظاهرات الهلال مع الصليب أيام الاحتلال، أو مظاهرات التحرير هذه الأيام، وهي حالة كاشفة لصلب العلاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها، ولكن استحضارها دائما غير ممكن ، وفائدتها قليلة في مواجهة الأزمات الطائفية التي تطفو على سطح الوطن ،البعض الآخر يتحدث عن حالة مصر الملكية الليبرالية بعد ثورة 1919 كنموذج لهذه الوحدة، ولكنه مع ذلك يظل العهد الذي صيغت فيه لائحة بناء الكنائس المتشددة التي يرفضها الأقباط اليوم مما يكفي دليلا أنه لم يكن نموذجيا كما يعتقد بعض المصابيين بحالة نوستالجيا إلى هذه المرحلة تحديدا، البعض يتكلم عن نموذج قانوني و دستوري يستبعد الدين بالكامل من الساحة العامة ، ويعتقد أنه عندما ينزع الهوية الدينية عن المصريين ، أو يحبسها خلف أسوار دور العبادة سيختفي التمييز بين مسلمهم و مسيحيهم، و ينسى أن هذا الخيار لا يمكن أن يكون خيارا ديموقراطيا لمجتمع متدين في أغلبيته سواء المسلم منهم أو المسيحي، و أقصى ما يمكن لهذا النموذج أن يكون سياسة كريهة مفروضة من سلطة غير شعبية ، ينتهز المواطن كل فرصة لتحديها و التعبير عن هويته الدينية. البعض يتحدث عن تفسير آخر للوحدة الوطنية يقترح فيه أن يكون للمسلمين مجالهم الخاص الذي يتحكم فيه علماؤهم و مشايخهم، و للمسيحيين مجالهم الخاص باعتبارهم شعب للكنيسة بالمعنى الدنيوي لا الديني ، و أن يتجاور المجالان من غير أن يتقاطعا تقريبا، في إحياء لنموذج الملة العثماني حيث لكل طائفة حق إدارة شؤونها الدينية بنفسها، وبناء مؤسساتها التربوية، والثقافية، والاجتماعية دون تدخل مباشر من جانب السلطنة، و هو ما يتعارض مع مفهوم الدولة الحديثة التي يكون ولاء مواطنيها لها كاملا و مباشرا. البعض يعتقد أنه يمكنه خلق وحدة وطنية من خلال خطاب ديني يهون من شأن الخلاف العقدي بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، و يركز على المشترك الإبراهيمي بينما متغافلا عن أوجه الخلاف الحاد في تصوراتهما عن الرب، و عن المسيح، و هو خطاب لا يقنع أي متدين من الطرفين ، فأحد خصائص الديانات الإبراهيمية كلها أن أيا منها ينطلق من تصور متكامل للعقيدة الحقة (أو قانون للإيمان كما يسمى في المسيحية) و تعتبر أن أي خروج عن أحد أركانه خروج كامل عن الدين، فهي ديانات لا تقبل التفاوض، أو الحلول الوسط في مسائل العقيدة كما تفعل بعض الديانات غير السماوية التي تسمح رؤيتها الشركية بضم آلهة جديدة لمجمع الآلهة، كل هذه التصورات لا تعبر عن مفهوم لوحدة وطنية مستقرة ، و راسخة، ، و الحق أن نموذج الوحدة الوطنية التي ينبغي أن نسعى إليها لا يتعارض مع حق الأغلبية في إبراز هوية عربية إسلامية لمصر بشرط ألا يتم تفسيرها بطريقة تتضمن اعتداء على الحقوق الإنسانية و السياسية للمصريين المسيحيين ، والحق -أيضا- أن الالتزام بروح الإسلام، و تعاليمه السمحاء، و بتجربة مصر العربية الإسلامية التي ساهم في بناء حضارتها المسلم و القبطي عبر القرون لا تجعل لهذا التفسير محلا. إن المساواة في الحقوق التي نتحدث عنها تتضمن الحق في إعلان الاعتقاد، و ممارسة الشعائر بحرية في دور عبادة آمنة و بدون تضييق ،وحق كل صاحب كفاءة في الوصول للمنصب الذي يستحقه ، أو الترشح له إذا كان من المناصب التي تشغل بالانتخاب، كما تتضمن مساواة أمام قانون يحفظ كرامة الجميع ، و يضمن حقوقهم، و قضاء عادل يضمن تطبيق هذا القانون على الجميع، ويشكل مظهرا لسيادة الدولة و هيبتها، بل لا قيام لوحدة وطنية حقيقية بغير أن تكون سيادة القانون هي الحاكمة في جميع القضايا ، و على جميع المؤسسات و الأشخاص، و في هذا الخصوص قد يظل لتدخل القساوسة و وساطة الشيوخ و المجالس العرفية و نحوها دورا هاما في احتواء الأزمات ،لكن مع ضمان ألا يفلت مذنب من عقاب هو حق للمجتمع و ليس للمجني عليه فحسب. إن الوحدة الوطنية لا تعني أيضا التجاوز عن سعي البعض سواء كانوا في المؤسسة الدينية القبطية، أو بعض علماء المسلمين فرض سلطة غير قانونية لهم على أتباعهم تتجاوز السلطة الروحية التي يلتزم بها المؤمن انطلاقا من إيمانه، أو التدخل في شئونهم و قراراتهم على غير رغبتهم ، و الأمثلة على مثل هذه التجاوزات مشهورة بحيث يستغنى عن ذكرها تصريحا، كما أن الوحدة الوطنية أجل من أن تستغل مطية في صراع الأيدلوجيات ، ذلك أن قطاعا لا يستهان به من المتباكين عليها اليوم يستغلونها فقط في حرب أرادوا إشعالها ضد أصحاب المرجعيات الإسلامية ، وإن كانت تأخذ في هذه المرحلة عنوان الوقوف بوجه السلفية الوهابية، وهو أمر خطير على الوحدة الوطنية نفسها، فعندما يتم تصوير الأمر للمسلم المتدين في بعض الصحف ووسائل الإعلام و كأن الوحدة الوطنية تقف على النقيض من التزامه و تدينه ، وأن عليه أن يفاضل بينهما فلا شك أنه سيضحي بالوحدة الوطنية، و هو ما قد يدفع الوطن له ثمنا غاليا بغير مبرر حقيقي.

(أمانة الإعلام و التوعية المجتمعية)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق