الأربعاء، 4 مايو 2011

مفاهيم سياسية إسلامية (2)- المجتمع المدني

بقلم : عبد المجيد الأنصاري

يذهب بعض الباحثين إلى أنه لا يصح البحث عن المجتمع المدني في الفكر والمجتمع العربي والاسلامي بناءً على أسباب، منها:
ـ أن الأبحاث التطبيقية عن المجتمع المدني في المجتمع العربي، انتهت إلى أنه ليس هناك مجتمع مدني بالمعنى القائم في الدول الغربية.
ـ أن المجتمع المدني نشأ من خلال نضال المجتمعات الغربية ضد السلطة التي كانت تجمع بين المدني والكنسي، بهدف الفصل بينهما، وهو المبدأ الذي يعارضه الاسلام، باعتباره نظاماً كلياً شمولياً.
ـ إن المجتمع المدني، يجد أساسه الأيديولوجي، في تفاعل ثلاثة أنظمة من القيم والمعتقدات: الليبرالية والرأسمالية والعلمانية، وهي لا تتفق مع القيم الاسلامية السائدة.
ـ إن الممارسات التي كانت تقوم بها البُنى والتشكيلات الاجتماعية، فيما يسمى بـ ((المجتمع الأهلي)) في التاريخ الاسلامي قبل ظهور الدولة القومية العربية، لا صلة لها بالمجتمع المدني، بلهي جزء من المجتمعات العشائرية والقَبَلية، وممارساتها أقرب إلى ممارسات المجتمع الإقطاعي في أوروبا في العصر الوسيط، والذي جاء مفهوم المجتمع المدني ليشكل رفضاً لها، ومحاولة لتجاوزها.
ـ يقوم المجتمع المدني على قيم نسبية تسمح بالاختلاف والتنوع، ولا توجد للمجتمع المدني، قيم مطلقة، حتى إن القيمة الأساسية للمجتمع المدني، وهي ((الحرية)) غير مطلقة بل لا بد من تقنينها إجرائياً، بينما قيم المؤسسات الدينية والأحزاب الاسلامية، مطلقة، وتقوم على حراسة قيم مطلقة.

وفي ضوء ما تقدم فإننا بحاجة إلى الإجابة عن تساؤلين:
ـ هل تستوعب أصول الاسلام وقيمه مبادئ وقيم المجتمع المدني (على ا لمستوى النظري)؟
ـ هل هناك مجتمع مدني أو شيء قريب منه، في الممارسة التاريخية العربية الاسلامية (على المستوى العملي)؟


1 ـ التأصيل النظري:

يحسن قبل الحديث عن التأصيل النظري للمجتمع المدني في الاسلام، التذكير ببعض مفاهيم وسمات المجتمع المدني، وهي:
ـ إن المجتمع المدني ـ حسب المفهوم الكلاسيكي ـ قد تبلور في سياق نظريات التعاقد كما نادى به فلاسفة العقد الاجتماعي إبان القرن الثامن عشر، تعبيراً عن المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة، وتأسست على عقد اجتماعي، وحد بين الأفراد، وأفرز الدولة في النهاية، فالمجتمع بهذا الاعتبار سابق على الدولة، ومصدر شرعيتها، ورقيبها.
ـ إن المجتمع المدني له سمات مشتركة، منها: الطوعية، والاستقلالية، والجمعية، والمؤسسية.
ـ إن المجتمع المدني يقوم على قيم، من أهمها: الاحترام والتسامح والتعاون والتكافل وحق الاختلاف والحرية.
فهل لهذه المفاهيم والقيم والسمات أساس في التطور الاسلامي للمجتمع المدني؟
أ ـ المجتمع المدني الاسلامي، سابق على دولته
حينما بدأ الاسلام دعوته ـ في المجتمع المكي ـ أقبل بعض الأفراد ـ بإرادتهم الحرة الطوعية ـ على قبوله، في مواجهة المؤسسة التسلطية التي كانت تضطهدهم وتحاربهم. وفي خلال ثلاث عشرة سنة، استطاع الاسلام تكوين مجتمعه المدني الأول، على أساس من عقيدة، وفي إطار مجموعة من القيم الحاكمة للعلاقات الاجتماعية، وتم كل ذلك، قبل أن يفرز المجتمع في النهاية دولته ـ دولة المدينة ـ التي قامت على أساس من تعاق=د اجتماعي ـ حقيقي ـ وبإرادة طوعية حرة (بيعة العقبة الثانية) ودستور نظم حقوقاً وواجبات بين جماعات حرة ـ متعددة الديانات والأعراق ـ وفي إطار من قيم العدالة والتكافل والتسامح والتشاور والحرية.
وفي هذا يتوافق المفهوم الكلاسيكي للمجتمع المدني ـ في أسبقيته على دولته ـ مع تقدم المجتمع الاسلامي وأسبقيته على وجود الدولة وتنظيماتها، وأسبقية النظام الاجتماعي على النظام السياسي، فقد كان المجتمع المدني الاسلامي الأول في مكة، هو البنية الأساسية التي أفرزت أو أنشأت دولته على أساس تعاقد حر.
ب ـ المجتمع المدني الاسلامي يشكل مركز الثقل في البناء الاجتماعي
أن مركز الثقل في البناء الاجتماعي الاسلامي ليس الدولة وإنما المجتمع بأفراده وعقائده ومؤسساته، وأن الهدف الأساسي للاسلام ينصب أساساً على إعادة بناء المجتمع الأهلي عبر بناء الفرد المؤمن القوي والجماعة المتماسكة المستخلفة عن الله.
وإذا رجعنا إلى الخطاب القرآني التكليفي فإننا نجد ما يأتي:
ـ القرآن الكريم، وفي معظم آياته، يتوجه بالخطاب في الأمور العامة أو الشأن العام للمجتمع إلى المجتمع المدني:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط).
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
وهناك آيات كثيرة تحمل المجتمع مسؤولية الحكم بالعدل والأمر بالمعروف وأداء الأمانات ومنع الظلم، مما يدل على أن المجتمع هو المسؤول الأول عن إقامة الدين وشرائعه ورعاية المصالح العامة، وهو صاحب السيادة العليا.
ـ يُحَمّل القرآن، المجتمع المدني، واجب الرقابة العامة (السياسية والاجتماعية) تطبيقاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
ولا معروف أعرف من العدل ولا منكر أنكر من الظلم، كما قال الإمام محمد عبده، بل إن الرجال والنساء يشتركون معاً في مسؤولية بناء المجتمع وتنميته. (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..).
وفي الحديث، قوله (ص): ((الدين النصيحةـ، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولائمة المسلمين وعامتهم، (رواه مسلم) )) وسئل الرسول (ص): ((أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر)).
((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب)).
والاسلام هنا لم يكتف بحرية التعبير، وإنما أوجبها وفرضها بحيث يأثم المجتمع إذا اتخذ موقفاً سلبياً من التجاوزات التي تحصل في المجتمع من قبل السلطات المختلفة، ففي الحديث: ((لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)),.
ج ـ المجتمع المدني الاسلامي نقيض المجتمع الجاهلي والبدوي
الاسلام دين مدني، حرص على تكوين مدنية وحضارة، ولذلك فقد حارب الاسلام نمط الحياة الجاهلية، كما حارب نمط الحياة البدوية الرعوية، ولذلك نجد في الأحاديث مثل: ((مَن بدا جفا)) (رواه أحمد) أي مَن نزل البادية صار فيه جفاء الأعراب، وفي رواية أخرى: ((مَن سكن البادية فقد جفا)) (رواه أحمد).
ولذلك فقد حرّم الاسلام على العرب المسلمين من أهل الحضر العودة إلى البادية للعيش فيها بصفة دائمة مع الأعراف، واعتبر ذلك من الكبائر: ((ثلاث من الكبائر، منها التعرب بعد الهجرة)) أي أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراف، بعد أن كان مهاجراً.
وفي القرآن الكريم: (الأعراف أشد كفراً ونفاقاً).
وفي حديث بُريدة أن الرسول (ص) أمره بأن مَن يدخل في الاسلام عليه أن يتحول من داره إلى دار المهاجرين.
وكل هذا يؤكد أن مفهوم المجتمع المدني راسخ في التصور الاسلامي، لأنه مستمد من طبيعة الاسلام الحضارية التمدينية، ومن رسالته في الانتقال بأهله من حالة البداوة إلى حالة المدن والحضارة.
د ـ المجتمع المدني الاسلامي يقوم على منظومة من القيم الأساسية، منها:
العدالة والمساواة والحرية والتشاور وحق الاختلاف والتسامح والتعاون والتكافل، وسنكتفي هنا بذكر أبرز قيمتين:
1 ـ التشاور:
إن مركز الشورى في الحياة الاجتماعية الاسلامية يمثل مركزاً متقدماً، والشورى في المجتمع المدني الاسلامي قيمة اجتماعية عليا تحكم علاقات الأفراد، وذلك قبل أن تتحول إلى نظام سياسي للدولة، وهذا هو المفهوم المستمد من تقدم آية الشورى المكية (وأمرهم شورى بينهم) على آية الشورى المدنية (وشاورهم في الأمر).
فالآية الأولى تبرز السمات الأساسية للمجتمع المدني في مكة قبل أن يكون لهذا المجتمع دولته، بأنهم يتشاورون في أمورهم ولا ينفرد أحدهم بالقرار في أمر مصيري يتعلق بالجماعة. وقد وردت سمة الشورى بالجملة الاسمية التي تفيد الاستقرار والثبوت، فكأن الشورى خصيصة من خصائص المجتمع المدني المسلم التي يجب أن يتحلى بها سواء كانوا يشكلون مجتمعاً لم تقم له دولة بعد أو كانوا يشكلون دولة قائمة بالفعل كما وضحتها الآية الأخرى. فالشورى وصف ملازم للمجتمع المسلم مثلها مثل الصلاة والزكاة، فإذا كان غير مسموح للمجتمع بترك أركان الاسلام من صلاة وزكاة فكذلك لا يسمح له بترك الشورى.
هذا على المستوى الاجتماعي، أما على المستوى السياسي فإذا تأملنا ما كان يحصل في عهد الخلافة الراشدة من مشاركة كبار الصحابة للحاكم في الشؤون العامة، وكذلك مشاركة أفراد المجتمع ـ رجالاً ونساءً ـ في إبداء الرأي والاعتراض والنقد والتقويم وفي المشاركة العامة في الحياة السياسية، اتضح لنا أن الحكم في الاسلام من مسؤولية المجتمع العامة، ذلك المجتمع المدني المتفاعل الواعي الذي تعنيه الأمور العامة، وذلك على الضد من المقولة التراثية السائدة من أن الحكم في الاسلام من مسؤولية الصفوة أو النخبة أو أهل الحل والعقد، إذا أدت هذه المقولة إلى عزلة الصفوة وانغلاقها وانفصالها عن المجتمع المدني، وقد كان ذلك أحد أسباب التخلف الرئيسية، لأن الصفوة التي لا جذور مجتمعية لها، صفوة ضعيفة غير فاعلة.
2 ـ حق الاختلاف والتعددية:
يكاد القرآن الكريم يكون الكتاب السماوي الوحيد الذي خلد الفكر أو الرأي المخالف بل المحارب، سواء كان منافقاً أو كتابياً أو ملحداً.
وكذلك فإن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ينظر إلى جميع الأنبياء والرسل والأديان السماوية السابقة، نظرة تقدير وتبجيل، بل يجعل هذه النظرة جزءاً من عقيدة المسلم، وذلك انطلاقاً من قاعدتين أساسيتين هما:
ـ أن الأديان وإن اختلفت شرائع، فأصولها واحدة، من حيث الألوهية والعمل الصالح والحساب والجزاء، والقيم الأخلاقية المشتركة، وتكريم الانسان، واحترام حقوقه، توصلاً إلى إقامة مجتمع يتعايش فيه الناس في إطار من التعاون والتسامح ونبذ ثقافة العنف والكراهية والتعصب. (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
ـ إن حق الاختلاف، حق أساسي من حقوق الانسان، سواء في المعتقد الديني أو التفكير أو الرأي أو التعبير عنه.
هـ ـ المجتمع المدني ليس نقيضاً للمجتمع الديني
إذا أخذنا في الاعتبار ما يلي:
1 ـ المطلق والنسبي في الاسلام: صحيح أن الاسلام وفي جانب منه، يقوم على قيم مطلقة (ثوابت) ولكن هذه المطلقات لا تشكل إلا حيزاً ضيقاً في فضاء عريض من المتغيرات سياسيةً واقتصاداً واجتماعاً حسب الزمان والمكان.
ومن جانب آخر، فإنه يتصور وجود تمايز بين الفضاءين: الفضاء المقيد الذي تشغله المطلقات، والفضاء الحر الذي تمارس فيه مؤسسات المجتمع المدني نشاطها النسبي، ولا يوجد مثل هذا التطابق أو الاندماج بين الفضاءين إلا عند بعض التوجهات أو الحركات الدينية والتي ترى ضرورة تماثل المجتمع الاسلامي مع الدولة والتي تطرح صيغاً معينة كالخلافة أو الحاكمية الإلهية أو ولاية الفقيه.
2 ـ الوظيفة الأخلاقية للدين: المجتمع المدني هو فضاء للحرية يلتقي فيه الناس ويتفاعلون، ولكن هذه التفاعلات تحتاج إلى سلطة للتقنين للتأكد من احترام قواعد التعامل، والسلطة هنا للدولة، ولكن الدولة لا تكون حاضرة مع كل الناس، كل الوقت، ولذلك فإننا بحاجة إلى حوافز وروادع ذاتية، وهذه تكون عادة، نتاجاً للدين أو الأخلاق. فالضمير بالمعنى السوسيولوجي ـ الفلسفي ـ الأخلاقي، هو نسق من الضوابط الداخلية التي يتم تفعيلها ذاتياً وتلقائياً، وتفضي إلى رقابة غير منظورة على السلوك حتى مع غياب الضوابط الاجتماعية الخارجية، والدين إذن يشكل المصدر الأصلي للضوابط الداخلية التي تصنع الضمير حتى بالنسبة إلى غير المتجينين.
3 ـ المؤسسات والأحزاب الدينية لا تحتكر الصواب: صحيح أن هناك مؤسسات وأحزاباً دينية تقوم بتفسير الدين وفق رؤى واجتهادات معينة، ولكن يجب أن نفهم أنه لا سلطة دينية على المجتمع، وأن الفتاوى والاجتهادات أو التفاسير ما هي في النهاية إلا توجهات بشرية في سياق زماني ومكاني معينين، ولكل مسلم أن يفهم الاسلام حسب قدراته وإمكانياته.
يقول الإمام محمد عبده: ((ليس في الاسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم.. ولم يعجل الاسلام لهؤلاء (القاضي أو المفتي أو شيخ الاسلام) أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء، فهي سلطة مدنية قررها الشرع الاسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره)).
4 ـ الوظيفة التحريرية والتنويرية للدين: صحيح أن مفهوم المجتمع المدني نشأ في حالة نقض للطابع الديني للدولة، ولكن هذا المفهوم لم يصبح مرتبطاً بظروف النشأة القديمة، نتيجة للصيرورة الراهنة، حيث تحول الدين إلى محرك أساسي في حركية المجتمع في أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي ضد سلطات الدولة وأجهزتها الحزبية، ومن ناحية أخرى، فقد لعبت كنائس أمريكا اللاتينية وبعض الإعلام الكاثوليكي والفاتيكان ـ خلال العشرين سنة الأخيرة ـ دوراً متزايداً باتجاه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان والتصدي للقهر الاجتماعي والطبقي، وكنيسة الأمس غير كنيسة اليوم في اهتمامها بمشاكل العالم الثالث والبُعد الديمقراطي، وكل هذا يشكل جزءاً من نشاط المجتمع المدني، فكيف يكون ((المدني)) نقيضاً لـ ((الديني)) في هذه الحالة؟!
وإذا كان هذا في الغرب الذي قام ضد كنيسته فكيف بالاسلام وعلاقته بمجتمعه ودوره في التحرير والتنوير؟.
5 ـ العبادات الاسلامية لها طابع جماعي تحقق وظائف اجتماعية وتربوية: فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، أما الزكاة والصوم والحج فجانبها الجماعي والاجتماعي واضح لا يحتاج إلى بيان فالعبادات كلها ـ إضافة إلى أنها قربة إلى الله ـ فإنها تنمي الجوانب التربوية والخلقية في الانسان، وتقوي الروابط الجماعية بين أفراد المجتمع وبخاصة حينما يلتقون في المسجد (الجامع) للتعاون والتكافل وتحقيق مصالحهم وتغيير حياتهم إلى الأفضل، كما أنها تغرس في نفوسهم قيم المساواة والعدالة والحرية والتسامح بغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية.

2 ـ الممارسات التاريخية:

إذا كانت الدولة نتاج المجتمع المدني، وأن كل مجتمع مدني ينتج دولته المميزة (من مقولة مونتسكيو)، فإن المجتمع المدني الاسلامي الأول أنتج دولته المتوافقة معه، بناءً على عقد اجتماعي حر بين رجال أحرار، ودستور نظم علاقات اجتماعية وسياسية في إطار من قيم الحرية والتسامح والتعاون والمساواة.
ولقد كانت لإدارة الرسول (ص)، والتي كانت تقوم على التشاور والعدالة وحق الاختلاف والتسامح حتى مع المعارضين والمنافقين، أكبر الأثر في بناء دولة نموذجية وفرت الأمن والاطمئنان في جميع أرجاء الجزيرة العربية مما ساعد على انتشار الاسلام.
وحينما كان التوافق قائماً بين المجتمع المدني ودولته ـ مدة الخلافة الراشدة ـ كان المجتمع الاسلامي في قمة قوته وازدهاره، حتى حصل ذلك الافتراق الحاد بين السلطة وقاعدتها المجتمعية، بانقلاب السلطة على مجتمعها، ليستمر ذلك الانفصام قروناً متطاولة بين الكيانين: كيان المجتمع المدني وتنظيماته، وكيان السلطة السياسية ومؤسساتها، وقليلاً ما توافق الكيانان ـ وذلك في عهد الحكومات الصالحة ـ وأما في عهود حكومات القهر والتغلب ـ وهي القاعدة ـ فكنا نجد أن المجتمع في طريق والدولة في طريق آخر. ولكن الأمر المدهش، أن الدولة لم تستطع أن تبتلع المجتمع كما حصل في النظم الشمولية فيما بعد، ولا حتى أن تهمشه، وذلك بسبب بسيط، هو أن المجتمع المدني هو أساس الوجود الاسلامي، فهو الذي يتمثل الاسلام في كيانه ـ كعقيدة وشريعة في ميزان خلقي ـ وتشده روابط اجتماعية تشكل قوته الحقيقية.
لقد حصل الانفصال بين الكيانين، واستقل كل كيان بذاتيته واختصاصاته وميادين نشاطه، ولكن المجتمع المدني الاسلامي ـ وعلى مرّ التاريخ ـ قلّما عوّل على السلطة السياسية الحاكمة في شؤونه إلا في الدفاع الخارجي (الجيش) والأمن الداخلي (الشرطة) وما يتعلق بشؤون البريد، بل كانت الدولة في حاجة مستمرة للمجتمع لتمويل ميزانيتها ونفقاتها عن طريق الجباية والضرائب. وأما شؤون التربية والتعليم والتثقيف والشؤون الصحية والاجتماعية، فقد كانت من مسؤولية تنظيمات المجتمع المدني، وقد ساعد على تعزيز دور هذه التنظيمات، أن التنظيم الاجتماعي الاسلامي يجعل المجتمع المسلم مسؤولاً عن الواجبات الاجتماعية العامة (فروض الكفاية)، وكل ما نسميه اليوم بالمرافق والخدمات كانت من مسؤولية المجتمع.
وعلى سبيل المثال، فقد كان التعليم من مسؤولية الناس الذين كانوا يحرصون أن يكون في شارعهم أو حيهم، كُتّاب يقوم بالتدريس فيه فقيه يعيش مما يتقاضى عن التعليم، وكان المجتمع شغوفاً بالعلم، ويدهش الانسان من اهتمام الكثيرين بالتأليف برغم قلة ما كان يؤتيه من كسب مادي، ولا يعلل هذا إلا بارتفاع قيمة العلم في سلم أولويات المجتمع، فما تركوا ناحية إلا وألفوا فيها الكتب الكثيرة.
ولقد كان المجتمع المدني فاعلاً متحركاً يموج بالحركة بل بالثورة، وكان للعلماء استقلاليتهم في الفتوى والتشريع والتثقيف، وكان للقضاء استقلاليته، وكانت المبادرات الفردية والجماعية الحرة تملأ الفضاء المجتمعي الحر، طاقة وإبداعاً وعملاً طوعياً.
وقد اكتسب المجتمع المدني من كل ذلك روحاً من الاعتماد على النفس، وتعلّم الناس كيف يدبّرون أمورهم ويحلون مشاكلهم دون حاجة إلى عون من حكومة.
ولعل فيما تقدم ما يفسر بقاء الكيان الاجتماعي للمجتمع الاسلامي سليماً متماسكاً رغم التدهور والانحطاط السياسي الذي أصاب الدولة الاسلامية، فقد ظل الناس ـ رغم سوء الأحوال السياسية ـ يتمسكون بالمروءة والدين ومكارم الأخلاق فيما بينهم، وذلك مقارنة بما حصل من تدهور اجتماعي شامل للمجتمعاتن الإغريقية والرومانية والإيرانية عندما تدهورت نظمها السياسية.
تكوينات المجتمع المدني في التاريخ العربي الاسلامي
ينتج تفاعل العلاقات بين البشر في مكان معين وبمرور الوقت، ما يسمى بالمؤسسات الاجتماعية، وهي مجموعة القواعد والآليات التي تنظم سلوك الأفراد والجماعات الذين يتفاعلون بهدف إشباع حاجاتهم وخدمة مصالحهم وتحقيق أهدافهم، كما أن لهذه المؤسسات دوراً كبيراً في تشكيل العقلية والسلوك السائدين لأفراد ذلك المجتمع.
ولقد عرف المجتمع الاسلامي ومنذ وقت مبكر وعلى امتداد التاريخ الاسلامي، تعددية دينية وسياسية وعرقية وجنسية، وكانت هناك جماعات مهنية (نقابات) وفرق ومذاهب فقهية وطرق صوفية وجماعات سياسية.
ويقترح بعض الباحثين استخدام مصطلح ((المجتمع الأهلي)) لتوصيف مظاهر العلاقة بين المجتمع في التاريخ وبما هو وعاء لبشر ينتجون سياسة وثقافة وسلعاً وعلاقات تبادل، والدولة بما هي هيئة حاكمة لهؤلاء البشر، ذلك أن ما يوازي مفهوم المجتمع المدني الحديث، من حيث دلالة استقلالية المجتمع عن الدولة عبر مؤسسات مستقلة أو شبه مستقلة أو وسيطة، هو ما يمكن أن نسميه اصطلاحاً ((المجتمع الأهلي)) في التاريخ الاجتماعي ـ السياسي العربي.
وسنكتفي هنا بذكر أهم هذه التكوينات أو المؤسسات:
1 ـ المساجد ودور العبادة
كانت المساجد محور الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وشكلت مراكز إشعاع ثقافي وتعليمي وتربوي بما كانت تبثه من قيم التضحية والجهاد والتغيير وبما كانت تثبته من قيم أخلاقية واجتماعية إضافة إلى أنها مكان يلتقي فيها الناس لممارسة العبادات والشعائر الدينية المختلفة.. وقد كانت دور العبادة أيضاً ملاذاً للناس في أوقات الشدة.
2 ـ الأوقاف
كانت الأوقاف مؤسسات كبرى مستقلة أقامها الناس بعطائهم، وأدت دورها الكبير في تأمين مستلزمات ((الدفاع الاجتماعي)). وقامت بتوفير مختلف المتطلبات الاجتماعية والثقافية للمجتمع من المدارس والمعاهد والمكتبات والمساجد إلى الملاجئ والمستشفيات (البيمارستانات) والفنادق (الخانات) إلى غير ذلك من جوانب الحياة الأخرى إلى حد حبس الأوقاف لصالح الراغبين في الزواج.
ويمكن القول إن معظم دور العلم في القرن الرابع الهجري ثم المستشفيات والمدارس التي تأسست في العهد السلجوقي والأيوبيين في المشرق قامت بشكل أساسي على الأوقاف، ثم إن مئات المؤسسات الاجتماعية والدينية كالجوامع والمدارس والخوانق والربط والزوايا والتكايا والمستشفيات في مدن بلاد الشام قبل العهد العثماني وبعده إنما نشأت واستمرت بفعل الدعم الذي أمنته لها مؤسسة الأوقاف.
3 ـ الطرق الصوفية
لعبت الطرق الصوفية دوراً سياسياً واجتماعياً وتحريرياً مهماً في المجتمع الاسلامي، وبخاصة تلك الطرق التي انتهجت منهجاً خلقياً قويماً يتفق والقيم الدينية، وقد دخل عامة الناس في تلك الطرق منتسبين، لأنها كانت تفتح لهم طريقاً لاتقاء أذى الحكام والمتصلين بهم، وكانت الطريقة توحد صفوفهم وتجعل لهم وزناً اجتماعياً وسياسياً، ثم إن الانتساب إليها كان يشبع عاطفتهم الدينية ويتيح لهم وسائل التخلص من الملل والفراغ ومتاعب الحياة، وشيئاً فشيئاً تحولت الطرق الصوفية إلى روابط بين أهل الحرف يحكمهم شيخهم اجتماعياً وأخلاقياً ويأخذ عليهم العهد ويساعدهم في أمورهم المالية، وقد قامت هذه الطرق بحفظ جوانب من المجتمع من التساقط في الوقت الذي بلغ فيه النظام السياسي مداه في الفساد. وكانت للطرق الصوفية رباطات وزوايا قامت بأدوار حيوية للمجتمع الاسلامي.
4 ـ نقابات الحرف والصنائع
عرف المجتمع الاسلامي الجماعات المهنية أو ((الأصناف)) منذ وقت مبكر (القرن السابع الهجري) وذلك على هيئة نقابات، فكان أهل كل صنعة تتكون منهم جماعة مهنية تحت قيادة شيخ يختارونه ليراقب جودة الصناعة ويدافع عن حقوقهم ويفض خلافاتهم، وكانت علاقة الأصناف بالدولة تتم عن طريق المحتسب الذي تطور عن (صاحب السوق)، ثم تراجع دور الأصناف كتنظيمات اجتماعية، وزالت تماماً في القرن الرابع عشر الهجري العشرين الميلادي بظهور النقابات الحديثة، لكن الواقع أن النقابات هي بداية تطور جديد، ولم تحل محل ((الأصناف)) السمة التقليدية للمدنية الاسلامية، والتي كانت وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي.
5 ـ جماعات العلماء والقضاة وأهل الإفتاء
استطاع العلماء أن يحتفظوا باستقلالية نسبية عن السلطة في كثير من الأحوال، وحافظوا على الكيان الاجتماعي للمجتمع الاسلامي، وبخاصة في عهود التدهور والانحطاط السياسي، عن طريق التثقيف والتوعية وغرس القيم الأخلاقية وتثبيت العقيدة والمبادئ الأساسية للاسلام، بهدف وقاية البنية التحتية وعلاجها من مفاسد الحكم وسيئاته، أملاً في التغيير والإصلاح والمنشودين وتطبيقاً لقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وقد كان كبار الشيوخ والقضاة والفقهاء ـ بالفعل ـ رؤساء المجتمع المدني وقادته، وكان الناس يلجأون إليهم في حوائجهم وفي حمايتهم من البطش والأذى.
6 ـ نقابات التجار
كان لكل طائفة من التجار ((نقابة)) وتجمع النقابات كلها في نقابة كبيرة تسمى ((نقابة التجارة)) يرأسها تاجر كبير (الشاهبندر) وكانت له مكانة مرموقة عند أهل الحكم والناس، وكان يقوم بخدمة النقابة والدفاع عن التجار ورفع الظلم عنهم وتخفيف وطأة رجال الإدارة عليهم خاصة عند جباية الضرائب منهم.
ولكن التجار لم يلعبوا دوراً يذكر في الحياة العامة لأنهم أصبحوا أعوان السلطة.
7 ـ جماعات الشطار والعيارين
مثلت حركة الشطار والعيارين والحرافيش وأصحاب المهن المحتقرة وأشباههم من المعدمين والعاطلين، بسبب انشغال السلطة بمصالحها وبالصراعات السياسية، جماعات تعيش على هامش المجتمع وفي حالة تمرد دائم على المجتمع، مطالبين بتحقيق العدالة الاجتماعية، مما أكسب تمرداتهم دلالات اجتماعية وسياسية واقتصادية.
خاتمة: نتائج
1 ـ إن مبادئ الاسلام وقيمه، تستوعب مضامين وقيم المجتمع المدني، ولا تشكل المطلقات والثوابت في الاسلام تناقضاً لقيم المجتمع المدني، ولا تحد من ممارساته في الفضاء الحر ـ الاجتماعي والسياسي، باعتبار أن العلاقة، علاقة تمايز لا الفصل ولا الاندماج.
2 ـ مشاركة المجتمع في الشأن العام، واستنفار جهود الأفراد للمساهمة في تنظيمات المجتمع المدني، بتوازن للسلطة واستقلال عنها، مسؤولية مجتمعية شرعية، تشكل المعادل الموضوعي لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 ـ جذور المجتمع المدني موجودة وبكثافة في عمق المجتمع العربي الاسلامي، والتجارب والممارسات والفعاليات التاريخية لتكوينات المجتمع المدني على امتداد التاريخ الاسلامي ـ وفي جانب منها ـ تعد أساساً صالحاً لبناء مشروع لمفهوم عربي اسلامي معاصر للمجتمع المدني، مع ضرورة الإفادة من المعطيات المعاصرة لقيم وممارسات المجتمع المدني.
4 ـ إن تفعيل تنظيمات المجتمع المدني ـ في المجتمعات العربية المعاصرة ـ هو الكفيل بتعزيز قيم الديمقراطية على مستوى التنشئة الأولى، وتصحيح الممارسة الديمقراطية على مستوى القاعدة الاجتماعية والسياسية، بما يؤدي إلى تحسين الوضع الديمقراطي وإلى عدم انتكاسته ونكوصه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يساعد على إنجاح عمليات التنمية بما يؤدي إلى تحقيق معدلات أداء أعلى.
5 ـ إن خطأ النخب والأحزاب السياسية العربية ـ الأساسي ـ أنها ركزت جهودها ـ ومنذ وقت مبكر من القرن الماضي ـ على السياسي والأيديولوجي، وأهملت الاجتماعي والقيمي، فانشغلت بالصراع السياسي على السلطة ـ معارضة وإصلاحاً ـ ودارت في فلكها، وأهملت تنظيمات المجتمع المدني، وتعزيز قيمها على مستوى القاعدة الاجتماعية.
6 ـ المجتمع المدني ليس بديلاً من الدولة العادلة، والتي تأخذ على عاتقها مسؤولية البناء والتنمية، وإنما هو مكمل للدولة في الوظائف والمسؤوليات ويخطئ مَن يقول أن مقولة المجتمع المدتني، وضرورة تنميته وتفعيله يعنيان التخلي عن الدولة وضرورتها أو إضعافها لحساب المجتمع المدني، إذ لا يستقيم وجود مجتمع مدني قوي ودولة ضعيفة. لقد ضعفت الدولة في الجزائر وانهارت في الصومال.. فهل قويت المجتمعات أو قامت؟ والحل ليس في رفض الدولة المتسلطة ولا في المعارضة بين الدولة والمجتمع المدني ولكن تغيير الدولة ذاتها من الداخل.
7 ـ إن ما بقي من تراث المجتمع المدني لا يعدو أشكالاً من التماسك الاجتماعي الذي اخترقته علاقات الإنتاج الجديدة، فطائفة الحرفة أخلفت مكانها للنقابة الحديثة، وتعددية الطرق والمذاهب أخلت مكانها للأحزاب والبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأما مؤسسة الوقف وبقية الصدقات (كالزكاة مثلاً) فهي مؤسسة تاريخية، يجب تجديدها وتطويرها، لتقوم بدورها في إنشاء ودعم المدارس والجامعات والمستشفيات ومراكز البحث العلمي والخدمات الاجتماعية، عبر مؤسسات وجمعيات مستقلة،وبذلك تساهم في إحياء تنظيمات المجتمع المدني، وفي إقامة علاقة توازن أكيد مع دولة عادلة ديمقراطية.

(نقلا عن موقع بلاغ http://www.balagh.com)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق