الأحد، 10 يوليو 2011

المنهج الإسلامي بين الثورة الجذرية و الثورة الإصلاحية


الثورة الجذرية هي تلك الثورة التي تهدف لقطيعة شاملة مع الماضي بأشخاصه وسياساته، وبتغيير حاد و فوري في مجمل البنية السياسية والاقتصادية/ الاجتماعية للبلاد.. ترتبط الثورة الجذرية بتطبيق اجراءات سريعة لاستبعاد رموز النظام القديم ليس فقط بالعزل، بل أيضا بالسجن، والنفي و ربما الاعدام أو حتى الاغتيال السياسي، إذ يظل حاضرا بشكل دائم هاجس الثورة المضادة ، و في سبيل منعها يتم التنازل عن الكثير من اعتبارات تحقيق العدالة الطبيعية لصالح ما يسمى بالعدالة الثورية من خلال محاكمات استثنائية ، وربما من غير أي محاكمة.. النموذج الكلاسيكي لهذا النوع من الثورات يتمثل في الثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا، أما في تاريخ مصر الحديث فتمثل حركة يوليو 1952 نموذجا للتغير الجذري (سواء أسميناها ثورة ، أو حركة ، أو انقلاب) و إن كانت بالطبع أقل دموية بكثير من النموذجين المذكورين سابقا، أما الثورة الإصلاحية، فهي التي تحاول الوصول لأهداف ثورية من خلال خطة اصلاحية تحاول تطوير البنية القائمة تدريجيا بدلا من هدمها تماما، ويتم فيها استبعاد عدد محدود نسبيا من الأفراد الثابت إجرامهم ، وغير القابلين للإصلاح، بينما تجري محاولة إعادة تأهيل العديد من المنتسبين للنظام البائد بحيث يمكن دمجهم في النظام الجديد، وتنطلق هذه الرؤية من أن الهدم الشامل للنظم السياسية و البنى الاقتصادي/الاجتماعية القائمة عندما يكون سريعا جدا، فإنه يستحيل عمليا تأسيس بناء جديد مستقر و كفء بنفس السرعة ، لذا فهناك دائما في تلك الحالة مرحلة اضطراب عنيف، و فوضى ذات تأثير سلبي عميق على المجتمع إلا إذا كان النظام الجديد قمعيا جدا بشكل يحجم مثل هذه التأثيرات (كما كان الحال في روسيا الشيوعية و إلى حد ما مصر عبد الناصر) و هو شيء غير محبب طبعا.. النموذج الكلاسيكي لهذا النوع من الثورة الإصلاحية تمثل في جنوب إفريقيا حيث تم القضاء على النظام العنصري بشكل تجنب العنف الجذري، و اتبعت سياسة تهدف لإعادة إدماج البيض في النظام الجديد، كذا فإن التحول الديموقراطي في أمريكا اللاتينية تم في أغلب دولها بهذه الطريقة، أما في مصر فإن ثورة 1919 تظل نموذجا جيدا لفكرة الثورة ذات النزعة الإصلاحية، فبدلا أن يتم القضاء على الملكية تم الاكتفاء بتحويلها من ملكية مطلقة لملكية دستورية،و تم القبول بالتعامل مع الاستقلال المشروط الذي منحه الانجليز لمصر مع استمرار النضال للمطالبة بالاستقلال التام و لم تتم أي اجراءات تطهيرية تذكر.. يعيب أنصار الثورة الجذرية على هذه الطريقة أن التغيير التدريجي بطيء و قابل دائما لإمكانية العودة للخلف، و الالتفاف عليه، وربما يكون هذا صحيحا إلى حد ما لكن بالتأكيد فإن الآثار المؤلمة التي تصاحب التغيير الجذري يتم تجنبها إلى حد كبير، تحاول السطور التالية أن تقدم اجتهادا حول أي الأسلوبين هو المقبول أكثر في الرؤية الاسلامية، و تسعى السطور القادمة لإثبات
أن الرؤية الإسلامية التي يمكن أن نصل إليها من خلال قراءة النصوص الإسلامية ، و السيرة النبوية تنسجم أكثر مع فكرة الثورة الإصلاحية، فعندما هاجر الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمدينة كانت القبلية هي الرابط الوحيد الذي يربط جماعات متنافرة متصارعة تعيش داخلها ، و في ضواحيها بغير أن يتشكل منها مجتمعا حقيقيا يمكن أن يطلق عليه شعب المدينة بين أفراده ما بين أبناء شعب واحد من الاتزام بواجبات محددة في مقابل حقوق واضحة. المنهج الجذري لمعالجة هذا الموقف يتمثل في إعلان إلغاء القبيلة لمصلحة الانتماء للأمة أو للوطن المديني ، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) اتبع سياسة أخرى حافظ فيها على القبلية القائمة محاولا الاستفادة من أفضل مميزاتها، ثم أعقبها ببنود أخرى تحاول تأسيس علاقات و التزامات فوق قبلية بين المسلمين وبعضهم البعض، وعلاقات و التزامات أخرى بين المسلمين و يهود المدينة، و تهدف هذه البنود لمعالجة عيوب القبلية من ناحية، و لتأسيس وطن بالمعنى الحقيقي للكلمة من ناحية أخرى، وبذلك نجحت الوثيقة في الوصول للهدف الثوري (تأسيس الأمة والوطن) من غير أن تدخل في قطيعة أو تحاول تدمير قيمة راسخة في المجتمع كالقبلية، و تبدأ صحيفة المدينة بذكر كل مجموعة قبلية ممن يعيشون في المدينة مؤكدة على وحدتهم و الاعتراف بهم كجماعة قبلية مميزة ، مع التأكيد على الالتزامات التي عليهم فيما بينهم بموجب هذه العلاقة القبلية:
"المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى،كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهمالأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النُبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين".. هكذا تمت الاستفادة من العلاقة القبلية في تأكيد التكافل بين أولي الأرحام.

ثم تنتقل الصحيفة إلى وضع العلاقات فوق القبلية بين جماعة المسلمين تأسيسا لمفهوم الأمة:
"وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً (معسرا) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل (دية)....وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (كبيرة) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.... وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم. وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإن سلم المؤمنين واحدة،لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم...وإن المؤمنين يـبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.وإنه من اعتبط مؤمناً قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول. وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه."

و تصل الصحيفة إلى وضع العلاقات بين جماعة المسلمين و بين مواطنيهم اليهود تأسيسا لمفهوم الدولة:
"وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم....وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف،وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف ،وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بن عوف ،وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف،وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.وإن النصر للمظلوم.وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم."
و هكذا استطاع النبي (صلى الله عليه و سلم) من خلال هذه الصحيفة أن يصل لحل توفيقي بين قيم القبيلة الراسخة، وبين قيم الأمة ، و بينهما و بين قيم الدولة من خلال تصور استيعابي يجمع ولا يفرق.. هذا المنطق اتبعته الشريعة الإسلامية في كثير من مفاصلها، انطلاقا من احترامها للعرف الذي جاء في النص القرآني (خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين)، ويمكن أن نلاحظ ذلك في تعامل الإسلام مع قضية الرق، فنظرا لرسوخ هذا النظام في الاقتصاد العالمي وقتها، والحاجة في تجريمه لتعاون اتفاق دولي كان مستحيلا وقتها سعت الشريعة للتخلص التدريجي منه من خلال تقليل أسباب الاسترقاق و الندب إلى الاعتاق وهو ما فصله الكثير من علماء الشريعة تفصيلا يطلب في مظآنه، كذا نلاحظ الميل إلى الأسلوب الإصلاحي في انتهاج أسلوب الاستيعاب وإعادة التأهيل بدلا من مفاهيم الإستبعاد ، و الإقصاء كما نجد مثاله في الحديث النبوي (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، و في مصطلحات كالتوبة ، وتأليف القلوب ، وغيرها.

أحمد عدلي أحمد
عضو بحزب الوسط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق